الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، آيِسْ مِنْ فَلَاحِ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الْقَائِلِينَ لَكَ: “ لَئِنْ جِئْتَنَا بِآيَةٍ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ “، فَإِنَّنَا لَوْ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَرَوْهَا عِيَانًا، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى بِإِحْيَائِنَا إِيَّاهُمْ حُجَّةً لَكَ، وَدَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّكَ مُحِقٌّ فِيمَا تَقُولُ، وَأَنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ فَجَعَلْنَاهُمْ لَكَ قُبُلًا مَا آمَنُوا وَلَا صَدَّقُوكَ وَلَا اتَّبَعُوكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَجْهَلُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، يَحْسَبُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ، وَالْكُفْرَ بِأَيْدِيهِمْ، مَتَّى شَاءُوا آمَنُوا، وَمَتَّى شَاءُوا كَفَرُوا. وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، ذَلِكَ بِيَدِي، لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ لَهُ فَوَفَّقْتُهُ، وَلَا يَكْفُرُ إِلَّا مَنْ خَذَلْتُهُ عَنِ الرُّشْدِ فَأَضْلَلْتُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ، فَقَالَ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ، “ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ “، وَنَزَلَ فِيهِمْ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، يُرَادُ بِهِ أَهْلُ الشَّقَاءِ، وَقِيلَ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: (لِيُؤْمِنُوا)، يُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالسَّعَادَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}، وَهُمْ أَهْلُ الشَّقَاءِ ثُمَّ قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، وَهُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، الْقَوْمَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَهٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ سَأَلُوا الْآيَةَ كَانُوا هُمُ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّهُمْ عُنُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا خَبَرَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَالْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْعُمُومِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ عُنِيَ بِهِ أَهْلُ الشَّقَاءِ مِنْهُمْ أَوْلَى، لِمَا وَصَفْنَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}. فَقَرَأَتْهُ قَرَأَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: “ قِبَلًا “، بِكَسْرِ “ الْقَافِ “ وَفَتْحِ “ الْبَاءِ “، بِمَعْنَى: مُعَايَنَةً مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ لَقِيتُهُ قِبَلًا “، أَيْ مُعَايَنَةً وَمُجَاهَرَةً. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، بِضَمِّ “ الْقَافِ “، “ وَالْبَاءِ “. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ، كَانَ لَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ “ الْقُبُلُ “ جَمْعَ “ قَبِيلٍ “، كَالرُّغُفِ الَّتِي هِيَ جُمَعُ “ رَغِيفٍ “، وَ“ الْقُضُبِ “ الَّتِي هِيَ جُمَعُ “ قَضِيبٍ “، وَيَكُونَ “ الْقُبُلُ “، الضُّمَنَاءَ وَالْكُفَلَاءَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ كُفَلَاءَ يَكْفُلُونَ لَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي نَعِدُهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ إِنْ آمَنُوا، أَوْ نُوعِدُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ إِنْ هَلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، مَا آمَنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ “ الْقُبُلُ “ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ أَتَيْتُكَ قُبُلًا لَا دُبُرًا “، إِذَا أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قَبِيلَةً قَبِيلَةً، صِنْفًا صِنْفًا، وَجَمَاعَةً جَمَاعَةً، فَيَكُونَ “ الْقُبُلُ “ حِينَئِذٍ جَمْعَ “ قَبِيلٍ “، الَّذِي هُوَ جَمْعُ “ قَبِيلَةٍ “، فَيَكُونَ “ الْقُبُلُ “ جَمْعَ الْجَمْعِ. وَبِكُلِّ ذَلِكَ قَدْ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مُعَايَنَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، يَقُولُ: مُعَايَنَةً. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، حَتَّى يُعَايِنُوا ذَلِكَ مُعَايَنَةً {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: قَبِيلَةً قَبِيلَةً، صِنْفًا صِنْفًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: مَنْ قَرَأَ: (قُبُلًا)، مَعْنَاهُ: قَبِيلًا قَبِيلًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: (قُبُلًا)، أَفْوَاجًا، قَبِيلًا قَبِيلًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ أَنَّ مُجَاهِدًا قَرَأَ فِي “ الْأَنْعَامِ “: (كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)، قَالَ: قَبَائِلَ، قَبِيلًا وَقَبِيلًا وَقَبِيلًا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: مُقَابِلَةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، يَقُولُ: لَوِ اسْتَقْبَلَهُمْ ذَلِكَ كُلُّهُ، لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، قَالَ: حُشِرُوا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَقَابَلُوهُمْ وَوَاجَهُوهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: قَرَأَ عِيسَى: (قُبُلًا) وَمَعْنَاهُ: عِيَانًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا}، بِضَمِّ “ الْقَافِ “ وَ“ الْبَاءِ “، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ احْتِمَالِ ذَلِكَ الْأَوْجُهَ الَّتِي بَيَّنَّا مِنَ الْمَعَانِي، وَأَنَّ مَعْنَى “ الْقِبَلِ “ دَاخِلٌ فِيهِ، وَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقِبَلِ مَعَانِي “ الْقُبُلِ “. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَحَشْرَنَا عَلَيْهِمْ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَجَمَعْنَا عَلَيْهِمْ، وَسُقْنَا إِلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسَلِّيهِ بِذَلِكَ عَمَّا لَقِيَ مِنْ كَفَرَةِ قَوْمِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَحَاثًّا لَهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا نَالَ فِيهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، يَقُولُ: وَكَمَا ابْتَلَيْنَاكَ، يَا مُحَمَّدُ، بِأَنَّ جَعْلَنَا لَكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ أَعْدَاءً شَيَاطِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ، لِيَصُدُّوهُمْ بِمُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكَ بِذَلِكَ عَنِ اتِّبَاعِكَ وَالْإِيمَانِ بِكَ وَبِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، كَذَلِكَ ابْتَلَيْنَا مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، بِأَنْ جَعَلْنَا لَهُمْ أَعْدَاءً مِنْ قَوْمِهِمْ يُؤْذُونَهُمْ بِالْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ. يَقُولُ: فَهَذَا الَّذِي امْتَحَنْتُكَ بِهِ، لَمْ تُخَصَّصْ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدَكَ، بَلْ قَدْ عَمَمْتُهُمْ بِذَلِكَ مَعَكَ لِأَبْتَلِيَهُمْ وَأَخْتَبِرَهُمْ، مَعَ قُدْرَتِي عَلَى مَنْعِ مَنْ آذَاهُمْ مِنْ إِيذَائِهِمْ، فَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَعْرِفَ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. يَقُولُ: فَاصْبِرْ أَنْتَ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَأَمَّا “ {شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} “، فَإِنَّهُمْ مَرَدَتُهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفِعْلَ الَّذِي مِنْهُ بُنِيَ هَذَا الِاسْمُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَنَصْبُ “ الْعَدُوِّ “ وَ“ الشَّيَاطِينِ “ بِقَوْلِهِ: (جَعَلْنَا). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ يُلْقِي الْمُلْقِي مِنْهُمُ الْقَوْلَ، الَّذِي زَيَّنَهُ وَحَسَّنَهُ بِالْبَاطِلِ إِلَى صَاحِبِهِ، لِيَغْتَرَّ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ، فَيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الَّتِي مَعَ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّتِي مَعَ الْجِنِّ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، أَمَّا “ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ “، فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَضِلُّ الْإِنْسَ “ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ “، الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْجِنَّ، يَلْتَقِيَانِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: “ إِنِّي أَضْلَلْتُ صَاحِبِي بِكَذَا وَكَذَا، وَأَضْلَلْتَ أَنْتَ صَاحِبَكَ بِكَذَا وَكَذَا “، فَيُعْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، قَالَ: لَيْسَ فِي الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، وَلَكِنْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، قَالَ: لِلْإِنْسَانِ شَيْطَانٌ، وَلِلْجِنِّيِّ شَيْطَانٌ، فَيَلْقَى شَيْطَانُ الْإِنْسِ شَيْطَانَ الْجِنِّ، فَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: جَعَلَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي تَأْوِيلِهِمَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُمَا، عَدُوَّ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا}، أَوْلَادَ إِبْلِيسَ، دُونَ أَوْلَادِ آدَمَ، وَدُونَ الْجِنِّ وَجَعَلَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُوحِي إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَدَ إِبْلِيسَ، وَأَنَّ مَنْ مَعَ ابْنِ آدَمَ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ يُوحِي إِلَى مَنْ مَعَ الْجِنِّ مِنْ وَلَدِهِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. وَلَيْسَ لِهَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِبْلِيسَ وَوَلَدَهُ أَعْدَاءَ ابْنِ آدَمَ، فَكُلُّ وَلَدِهِ لِكُلِّ وَلَدِهِ عَدُوٌّ. وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْخَبَرَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَعْدَاءً. فَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ السُّدِّيُّ، الَّذِينَ هُمْ وَلَدُ إِبْلِيسَ، لَمْ يَكُنْ لِخُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ الشَّيَاطِينَ أَعْدَاءً، وَجْهٌ. وَقَدْ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ لَأَعْدَى أَعْدَائِهِ، مِثْلَ الَّذِي جَعَلَ لَهُمْ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَالَّذِي قُلْنَا، مِنْ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مَرَدَةَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الْقَوْلِ مَا يُؤْذِيهِمْ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَم»! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَشْيَخَةِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ قَدْ أَطَالَ فِيهِ الْجُلُوسَ، قَالَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ!» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَامَ يَوْمًا يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَوَّذْ يَا أَبَا ذَرٍّ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ!» وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا: مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، قَالَ: مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَوَّذْ يَا أَبَا ذَرٍّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوَ إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ!» حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَامَ ذَاتَ يَوْمٍ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوَ لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ كَشَيَاطِينِ الْجِنِّ؟ قَالَ: “ نَعَمْ، أَوَ كَذَبْتُ عَلَيْهِ؟ » حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، فَقَالَ: كُفَّارُ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، كُفَّارِ الْإِنْسِ، زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، فَإِنَّهُ الْمُزَيَّنُ بِالْبَاطِلِ، كَمَا وَصَفْتُ قَبْلُ. يُقَالُ مِنْهُ: “ زَخْرَفَ كَلَامَهُ وَشَهَادَتَهُ “، إِذَا حَسَّنَ ذَلِكَ بِالْبَاطِلِ وَوَشَّاهُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) قَالَ: تَزْيِينُ الْبَاطِلِ بِالْأَلْسِنَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا “ الزُّخْرُفُ “، فَزَخْرَفُوهُ، زَيَّنُوهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، قَالَ: تَزْيِينُ الْبَاطِلِ بِالْأَلْسِنَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، يَقُولُ: حَسَّنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْقَوْلَ لِيَتَّبِعُوهُمْ فِي فِتْنَتِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قَالَ: “ الزُّخْرُفُ “، الْمُزَيَّنُ، حَيْثُ زَيَّنَ لَهُمْ هَذَا الْغُرُورَ، كَمَا زَيَّنَ إِبْلِيسُ لِآدَمَ مَا جَاءَهُ بِهِ وَقَاسَمَهُ إِنَّهُ لَهُ لَمِنَ النَّاصِحِينَ. وَقَرَأَ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ}، [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 25]. قَالَ: ذَلِكَ الزُّخْرُفُ. وَأَمَّا “الْغُرُورُتَعْرِيفُهُ “، فَإِنَّهُ مَا غَرَّ الْإِنْسَانَ فَخَدَعَهُ فَصَدَّهُ عَنِ الصَّوَابِ إِلَى الْخَطَأِ وَعَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ غَرَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا وَكَذَا، فَأَنَا أَغُرُّهُ غُرُورًا وَغِرًّا. كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (غُرُورًا) قَالَ: يَغُرُّونَ بِهِ النَّاسَ وَالْجِنَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ شِئْتُ، يَا مُحَمَّدُ، أَنْ يُؤْمِنَ الَّذِينَ كَانُوا لِأَنْبِيَائِي أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَا يَنَالَهُمْ مَكْرُهُمْ وَيَأْمَنُوا غَوَائِلَهُمْ وَأَذَاهُمْ، فَعَلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَشَأْ ذَلِكَ، لِأَبْتَلِيَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَسْتَحِقَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا سَبَقَ لَهُ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ (فَذَرْهُمْ)، يَقُولُ: فَدَعْهُمْ يَعْنِي الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ بِالْبَاطِلِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ وَيُخَاصِمُونَكَ بِمَا يُوحِي إِلَيْهِمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (وَمَا يَفْتَرُونَ)، يَعْنِي: وَمَا يَخْتَلِقُونَ مِنْ إِفْكٍ وَزُورٍ. يَقُولُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، فَإِنِّي مِنْ وَرَاءِ عِقَابِهِمْ عَلَى افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَاخْتِلَاقِهِمْ عَلَيْهِ الْكَذِبَ وَالزُّورَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يُوحِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ إِلَى بَعْضٍ الْمُزَيَّنَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ، لِيُغْرُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، يَقُولُ: وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَهُوَ مِنْ “ صَغَوْتُ تَصْغَى وَتَصْغُو “ وَالتَّنْزِيلُ جَاءَ بِ “ تَصْغَى “ “ صَغْوًا، وَصُغُوًّا “، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: “ صَغَيْتُ “، بِالْيَاءِ، حُكِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ: “ صَغَيْتُ إِلَى حَدِيثِهِ، فَأَنَا أَصْغَى صُغِيًّا “ بِالْيَاءِ، وَذَلِكَ إِذَا مِلْتُ. يُقَالُ: “ صَغْوِي مَعَكَ “، إِذَا كَانَ هَوَاكَ مَعَهُ وَمَيْلُكَ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: “ ضِلَعِي مَعَكَ “. وَيُقَالُ: “ أَصْغَيْتُ الْإِنَاءَ “ إِذَا أَمَلْتُهُ لِيَجْتَمِعَ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَرَى السَّفِيَهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ *** زَيْغٌ، وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ وَيُقَالُ لِلْقَمَرِ إِذَا مَالَ لِلْغُيُوبِ: “ صَغَا “ وَ“ أَصْغَى “. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ}، يَقُولُ: تَزِيغُ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، قَالَ: لِتَمِيلَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، يَقُولُ: تَمِيلُ إِلَيْهِ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَيُحِبُّونَهُ، وَيَرْضَوْنَ بِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، قَالَ: “ وَلِتَصْغَى “، وَلِيَهْوَوْا ذَلِكَ وَلِيَرْضَوْهُ. قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ: “ صَغَيْتُ إِلَيْهَا “، هَوِيتُهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِيَكْتَسِبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ. حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا مِنْهَا: “ خَرَجَ يَقْتَرِفُ لِأَهْلِهِ “، بِمَعْنَى يَكْسِبُ لَهُمْ. وَمِنْهُ قِيلَ: “ قَارَفَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ “، إِذَا وَاقَعَهُ وَعَمِلَهُ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ التُّهْمَةُ وَالِادِّعَاءُ. يُقَالُ لِلرَّجُلِ: “ أَنْتَ قَرَفْتَنِي “، أَيِ اتَّهَمْتَنِي. وَيُقَالُ: “ بِئْسَمَا اقْتَرَفْتَ لِنَفْسِكَ “، وَقَالَ رُؤْبَةُ: أَعْيَا اقْتِرَافُ الْكَذِبِ الْمَقْرُوفِ *** تَقْوَى التَّقِيِّ وَعِفَّةَ الْعَفِيفِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (وَلِيَقْتَرِفُوا) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، قَالَ: لِيَعْمَلُوا مَا هُمْ عَامِلُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}، قَالَ: لِيَعْمَلُوا مَا هُمْ عَامِلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الْقَائِلِينَ لَكَ: “ كُفَّ عَنْ آلِهَتِنَا، وَنَكُفَّ عَنْ إِلَهِكَ “: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ عَلَيَّ بِذِكْرِ آلِهَتِكُمْ بِمَا يَكُونُ صَدًّا عَنْ عِبَادَتِهَا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا}، أَيْ: قُلْ: فَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَعَدَّى حُكْمَهُ وَأَتَجَاوَزَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَكَمَ أَعْدَلُ مِنْهُ، وَلَا قَائِلَ أَصْدَقُ مِنْهُ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} يَعْنِي الْقُرْآنَ “ مُفَصَّلًا “، يَعْنِي: مُبَيَّنًا فِيهِ الْحُكْمُ فِيمَا تَخْتَصِمُونَ فِيهِ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ التَّفْصِيلِ “، فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ مِنْ قَوْمِكَ تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ الْأَنْدَادَ، وَجَحَدُوا مَا أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَكَذَّبُوا بِهِ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ}، يَعْنِي الْقُرْآنَ وَمَا فِيهِ (بِالْحَقِّ) يَقُولُ: فَصْلًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الصَّادِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَكَذِبِ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي عَلَيْهِ {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، يَقُولُ: فَلَا تَكُونَنَّ، يَا مُحَمَّدُ، مِنَ الشَّاكِّينَ فِي حَقِيقَةِ الْأَنْبَاءِ الَّتِي جَاءَتْكَ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. وَقَدْ بَيَّنَا فِيمَا مَضَى مَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، مَعَ الرِّوَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهِ، وَقَدْ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، يَقُولُ: لَا تَكُونَنَّ فِي شَكٍّ مِمَّا قَصَصْنَا عَلَيْكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَمُلَتْ “ كَلِمَةُ رَبِّكَ “، يَعْنِي الْقُرْآنَ. سَمَّاهُ “ كَلِمَةً “، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْقَصِيدَةِ مِنَ الشِّعْرِ يَقُولُهَا الشَّاعِرُ: “ هَذِهِ كَلِمَةُ فُلَانٍ “.. (صِدْقًا وَعَدْلًا)، يَقُولُ: كَمُلَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ مِنَ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ. وَ “ الصِّدْقُ “ وَ“ الْعَدْلُ “ نُصِبَا عَلَى التَّفْسِيرِ لِلْكَلِمَةِ، كَمَا يُقَالُ: “ عِنْدِي عِشْرُونَ دِرْهَمًا “. (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، يَقُولُ: لَا مُغَيِّرَ لِمَا أَخْبَرَ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ وُقُوعِهِ فِي حِينِهِ وَأَجَلِهِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}، [سُورَةُ الْفَتْحِ: 15]. فَكَانَتْ إِرَادَتُهُمْ تَبْدِيلَ كَلَامِ اللَّهِ، مَسْأَلَتَهُمْ نَبِيَّ اللَّهِ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَحْضُرُونَ الْحَرْبَ مَعَهُ، وَقَوْلَهُمْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)، بَعْدَ الْخَبَرِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} الْآيَةَ، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 83]، فَحَاوَلُوا تَبْدِيلَ كَلَامِ اللَّهِ وَخَبَرَهُ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَخْرُجُوا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ فِي غَزَاةٍ، وَلَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ عَدُوًّا بِقَوْلِهِمْ لَهُمْ: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا “ بِمَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ وَخَبَرَهُ: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، إِنَّمَا هُوَ: لَا مُغَيِّرَ لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ خَبَرٍ أَنَّهُ كَائِنٌ، فَيُبْطِلَ مَجِيئَهُ وَكَوْنَهُ وَوُقُوعَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُفْتَرُونَ فِي كُتُبِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ غَيْرَ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، يَقُولُ: صِدْقًا وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاللَّهُ “ السَّمِيعُ “، لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ، الْمُقْسِمُونَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ “ الْعَلِيمُ “، بِمَا تَئُولُ إِلَيْهِ أَيْمَانُهُمْ مِنْ بِرٍّ وَصِدْقٍ وَكَذِبٍ وَحِنْثٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ عِبَادِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُطِعْ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَنْدَادَ، يَا مُحَمَّدُ، فِيمَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ مِنْ أَكْلِ مَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ، وَأَهَلُّوا بِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِمْ، وَأَشْكَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، فَإِنَّكَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَمَحَجَّةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَيَصُدُّوكَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ}، مِنْ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ كُفَّارًا ضُلَّالًا فَقَالَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَا تُطِعْهُمْ فِيمَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ إِنْ تُطِعْهُمْ ضَلَلْتَ ضَلَالَهُمْ، وَكُنْتَ مِثْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَكَ إِلَى الْهُدَى وَقَدْ أَخْطَئُوهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ حَالِ الَّذِينَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ فِيمَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ مُنْ أَمْرِهِمْ عَلَى ظَنٍّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، وَحُسْبَانٍ عَلَى صِحَّةِ عَزْمٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي الْحَقِيقَةِ {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، يَقُولُ: مَا هُمْ إِلَّا مُتَخِرِّصُونَ، يَظُنُّونَ وَيُوقِعُونَ حَزْرًا، لَا يَقِينَ عِلْمٍ. يُقَالُ مِنْهُ: “ خَرَصَ يَخْرُصُ خَرْصًا وُخُرُوصًا “، أَيْ كَذَبَ، وَ“ تَخَرَّصَ بِظَنٍّ “، وَ“ تَخَرَّصَ بِكَذِبٍ “، وَ“ خَرَصْتُ النَّخْلَ أَخْرُصُهُ “، وَ“ خَرِصَتْ إِبِلُكَ “، أَصَابَهَا الْبَرْدُ وَالْجُوعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي نَهَاكَ أَنْ تُطِيعَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ، لِئَلَّا يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِهِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَمِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ أَيَّ خَلْقِهِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ الَّذِي يُوحِي الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَصُدُّوا عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، يَقُولُ: وَهُوَ أَعْلَمُ أَيْضًا مِنْكَ وَمِنْهُمْ بِمَنْ كَانَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ. يَقُولُ: وَاتَّبِعْ، يَا مُحَمَّدُ، مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، وَانْتَهِ عَمَّا نَهَيْتُكَ عَنْهُ مِنْ طَاعَةِ مَنْ نَهَيْتُكَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِالْهَادِي وَالْمُضِلِّ مِنْ خَلْقِي، مِنْكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوْضِعِ “ مَنْ “ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ}. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَوْضِعُهُ خَفْضٌ بِنِيَّةِ “ الْبَاءِ “. قَالَ: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَضِلُّ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَوْضِعُهُ رَفْعٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: “ أَيٌّ “، وَالرَّافِعُ لَهُ “ يَضِلُّ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رَفْعٌ بِ “ يَضِلُّ “، وَهُوَ فِي مَعْنَى: “ أَيٌّ “. وَغَيْرُ مَعْلُومٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ مَخْفُوضٌ بِغَيْرِ خَافِضٍ، فَيَكُونَ هَذَا لَهُ نَظِيرًا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَعْلَمُ)، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى “ يَعْلَمُ “، وَاسْتَشْهَدَ لِقِيلِهِ بِبَيْتِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ: فَحَالَفَتْ طَيِّئٌ مِنْ دُونِنَا حِلِفًا *** وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنَّا لَهُمْ خُذُلَا وَبِقَوْل ِالخَنْسَاءِ: الْقَوْمُ أَعْلَمُ أَنَّ جَفْنَتَهُ *** تَعْدُو غَدَاةَ الرِّيحِ أَوْ تَسْرِي وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَائِلُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلَيْسَِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ}، مِنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فَأَبَانَ بِدُخُولِ “ الْبَاءِ “ فِي “ الْمُهْتَدِينَ “ أَنَّ “ أَعْلَمُ “ لَيْسَ بِمَعْنَى “ يَعْلَمُ “؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ بِمَعْنَى “ يَفْعَلُ “، لَمْ يُوصَلْ بِالْبَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ: “ هُوَ يَعْلَمُ بِزَيْدٍ “، بِمَعْنَى: يَعْلَمُ زَيْدًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِآيَاتِهِ: “ فَكُلُوا “، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِمَّا ذَكَّيْتُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ وَذَبَحْتُمُوهُ الذَّبْحَ الَّذِي بَيَّنْتُ لَكُمْ أَنَّهُ تَحِلُّ بِهِ الذَّبِيحَةُ لَكُمْ، وَذَلِكَ مَا ذَبَحَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِي مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ دِينِ الْحَقِّ، أَوْ ذَبَحَهُ مَنْ دَانَ بِتَوْحِيدِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، دُونَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنَ الْمَجُوسِ (إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ بِحُجَجِ اللَّهِ الَّتِي أَتَتْكُمْ وَأَعْلَامِهِ، بِإِحْلَالِ مَا أَحْلَلْتُ لَكُمْ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَآكِلِ، مُصَدِّقِينَ، وَدَعُوا عَنْكُمْ زُخْرُفَ مَا تُوحِيهِ الشَّيَاطِينُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ لَكُمْ، وَتَلْبِيسِ دِينِكُمْ عَلَيْكُمْ غُرُورًا. وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، قَالَ: يَأْمُرُ بِذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَالذَّبْحِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِهِ يَأْمُرُ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا لَكَمَ أَنْ لَا تَأْكُلُوا}. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرِيِّينَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي أَنْ لَا تَأْكُلُوا. قَالَ: وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ)، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 246]. يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي تَرْكِ الْقِتَالِ؟ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ “ لَا “، زَائِدَةً لَا يَقَعُ الْفِعْلُ. وَلَوْ كَانَتْ فِي مَعْنَى: “ وَمَا لَنَا وَكَذَا “، لَكَانَتْ: وَمَا لَنَا وَأَنْ لَا نُقَاتِلَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا دَخَلَتْ “ لَا “ لِلْمَنْعِ؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَ “ مَا لَكَ “، وَ“ مَا مَنَعَكَ “ وَاحِدٌ. “ مَا مَنَعَكَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ “، وَ“ مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ “، وَاحِدٌ. فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ “ لَا “. قَالَ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ تَكُونُ فِيهِ “ لَا “، وَتَكُونُ فِيهِ “ أَنْ “، مِثْلَ قَوْلِهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}، [سُورَةُ النِّسَاءِ: 176]، وَ“ أَنْ لَا تَضِلُّوا “، يَمْنَعُكُمْ مِنَ الضَّلَالِ بِالْبَيَانِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمَا لَكُمْ)، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَقَدَّمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَحْلِيلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِبَاحَةِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ بِدِينِهِ أَوْ دِينِ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِبَعْضِ شَرَائِعِ كُتُبِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَتَحْرِيمِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ، مِنَ الْحَيَوَانِ وَزَجْرِهِمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ لِمَا يُوحِي الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ فِي الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَسَائِرِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ بِدِينِي الَّذِي ارْتَضَيْتُهُ، وَقَدْ فَصَّلْتُ لَكُمُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ فِيمَا تَطْعَمُونَ، وَبَيَّنْتُهُ لَكُمْ بِقَوْلِي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}، [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 3]، فَلَا لَبْسَ عَلَيْكُمْ فِي حَرَامِ ذَلِكَ مِنْ حَلَالِهِ، فَتَتَمَنَّعُوا مِنْ أَكْلِ حَلَالِهِ حَذَرًا مِنْ مُوَاقَعَةِ حَرَامِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مُتَأَوِّلِي ذَلِكَ: “ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي أَنْ لَا تَأْكُلُوا “؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ كَذَلِكَ، لِمَنْ كَانَ كَفَّ عَنْ أَكْلِهِ رَجَاءَ ثَوَابٍ بِالْكَفِّ عَنْ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْكَفِّ فَكَفَّ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِهِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَفَّ عَنْ أَكْلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الذَّبَائِحِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ عَلَى تَرْكِهِ ذَلِكَ، وَاعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ. فَبَيِّنٌ بِذَلِكَ- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا- أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قُلْنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: “ فَصَّلَ “، وَ“ فَصَّلْنَا “ وَ“ فُصِّلَ “ بَيَّنَ، أَوْ بُيِّنَ، بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}، يَقُولُ: قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِ الْحَرْفَيْنِ مِنْ “ فَصَّلَ “ وَ“ حَرَّمَ “، أَيْ: فَصَّلَ مَا حَرَّمَهُ مِنْ مَطَاعِمِكُمْ، فَبَيَّنَهُ لَكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (وَقَدْ فَصَّلَ) بِفَتْحِ فَاءِ “ فَصَّلَ “ وَتَشْدِيدِ صَادِهِ، “ مَا حُرِّمَ “، بِضَمِّ حَائِهِ وَتَشْدِيدِ رَائِهِ، بِمَعْنَى: وَقَدْ فَصَّلَ اللَّهُ لَكُمُ الْمُحَرَّمَ عَلَيْكُمْ مِنْ مَطَاعِمِكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: “ وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ “، بِضَمِّ فَائِهِ وَتَشْدِيدٍ صَادِهِ، “ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ “، بِضَمٍّ حَائِهِ وَتَشْدِيدِ رَائِهِ، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا. وَرُوِِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: “ وَقَدْ فَصَلَ “، بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، بِمَعْنَى: وَقَدْ أَتَاكُمْ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، سِوَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْ عَطِيَّةَ، قِرَاءَاتٌ مَعْرُوفَاتٌ مُسْتَفِيضَةٌ الْقِرَاءَةُ بِهَا فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، وَهُنَّ مُتَّفِقَاتُ الْمَعَانِي غَيْرُ مُخْتَلِفَاتٍ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِيهِ الصَّوَابَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّ مَا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي بَيِّنٌ تَحْرِيمُهَا لَنَا فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ، لَنَا حَلَالٌ مَا كُنَّا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ، حَتَّى تَزُولَ الضَّرُورَةُ. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)، مِنَ الْمَيْتَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ- [الَّذِينَ] يُجَادِلُونَكُمْ فِي أَكْلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، مِنَ الْمَيْتَةِ- لَيُضِلُّونِ أَتْبَاعَهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ مَا يَقُولُونَ، وَلَا بُرَهَانٍ عِنْدَهُمْ بِمَا فِيهِ يُجَادِلُونَ، إِلَّا رُكُوبًا مِنْهُمْ لِأَهْوَائِهِمْ، وَاتِّبَاعًا مِنْهُمْ لِدَوَاعِي نُفُوسِهِمْ، اعْتِدَاءً وَخِلَافًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَطَاعَةً لِلشَّيَاطِينِ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}، يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِي أَحَلَّ لَكَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ عَلَيْكَ مَا حَرَّمَ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اعْتَدَى حُدُودَهُ فَتَجَاوَزَهَا إِلَى خِلَافِهَا، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (لَيُضِلُّونَ). فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: (لَيُضِلُّونَ)، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ: “ لَيَضِلُّونَ “، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنِ الْحَقِّ فَيَجُورُونَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ}، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضْلَالِهِمْ مَنْ تَبِعَهُمْ، وَنَهَاهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ إِلَى مَا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، ثُمَّ أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ عَنْهُمْ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ، وَنَهَاهُمْ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمْ عَنْ مَثَلِ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَيُضِلُّونَكُمْ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ نَظِيرَ الَّذِي قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَدَعُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَانِيَةَ الْإِثْمِ وَذَلِكَ ظَاهِرُهُ، وَسِرَّهُ وَذَلِكَ بَاطِنُهُ،. كَذَلِكَ:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، أَيْ: قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، قَالَ: سَرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، يَقُولُ: سَرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَقَوْلُهُ: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 33]، قَالَ: سَرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، قَالَ: نَهَى اللَّهُ عَنْ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ، أَنْ يُعْمَلَ بِهِ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، وَذَلِكَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، مَعْصِيَةَ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، قَالَ: هُوَ مَا يَنْوِي مِمَّا هُوَ عَامِلٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالْمَعْنِيِّ بِالظَّاهِرِ مِنَ الْإِثْمِ وَالْبَاطِنِ مِنْهُ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: “ الظَّاهِرُ مِنْهُ “، مَا حَرَّمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، [سُورَةُ النِّسَاءِ: 23]، وَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ، وَ“ الْبَاطِنُ مِنْهُ “، الزِّنَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، قَالَ: الظَّاهِرُ مِنْهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَالْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ “. وَالْبَاطِنُ “: الزِّنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الظَّاهِرُ “، أُولَاتُ الرَّايَاتِ مِنَ الزَّوَانِي، وَالْبَاطِنُ: ذَوَاتُ الْأَخْدَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أَمَّا “ ظَاهِرُهُ “، فَالزَّوَانِي فِي الْحَوَانِيتِ، وَأَمَّا “ بَاطِنُهُ “، فَالصَّدِيقَةُ يَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ فَيَأْتِيهَا سِرًّا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 151]. كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَسِرُّونَ بِالزِّنَى، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ حَلَالًا مَا كَانَ سِرًّا، فَحَرَّمَ اللَّهُ السِّرَّ مِنْهُ وَالْعَلَانِيَةَ. “ مَا ظَهَرَ مِنْهَا “، يَعْنِي الْعَلَانِيَةَ “ وَمَا بَطَنَ “، يَعْنِي السِّرَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي مَكِينٍ وَأَبِيهِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قَالَ: “ مَا ظَهَرَ مِنْهَا “، الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَتَزْوِيجُ الرَّجُلِ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ “ وَمَا بَطَنَ “ الزِّنَى. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الظَّاهِرُ “ التَّعَرِّي وَالتَّجَرُّدُ مِنَ الثِّيَابِ، وَمَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ. “ وَالْبَاطِنُ “ الزِّنَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، قَالَ: ظَاهَرُهُ الْعُرْيَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهَا حِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَبَاطِنُهُ: الزِّنَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَقَدَّمَ إِلَى خَلْقِهِ بِتَرْكِ ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ، وَذَلِكَ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ.وَ “ الْإِثْمُتَعْرِيفُهُ “ كُلُّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سِرُّ الزِّنَى وَعَلَانِيَتُهُ، وَمُعَاهَرَةُ أَهْلِ الرَّايَاتِ وَأُولَاتِ الْأَخْدَانِ مِنْهُنَّ، وَنِكَاحُ حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ ظَهَرَتْ أَوْ بَطَنَتْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ “ إِثْمًا “، وَكَانَ اللَّهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، جَمِيعَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْإِثْمِ وَجَمِيعَ مَا بَطَنَ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ لِلْعُذْرِ قَاطِعَةٍ. غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُوَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى الْخُصُوصِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، كَانَ تَوْجِيهُهُ إِلَى أَنَّهُ عَنَى بِظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَآكِلِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْلَى، إِذْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْآيَاتِ قَبْلَهَا بِذِكْرِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ جَرَى، وَهَذِهِ فِي سِيَاقِهَا. وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِهَا ذَلِكَ، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْأَمْرَ بِاجْتِنَابِ كُلِّ مَا جَانَسَهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ عَامًّا بِالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ أَوْ بَطَنَ مِنَ الْإِثْمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَرْكَبُونَ مَعَاصِيَ اللَّهِ وَيَأْتُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ (سَيُجْزَوْنَ)، يَقُولُ: سَيُثِيبُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَ مِنْ مَعَاصِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، لَا تَأْكُلُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِمَّا مَاتَ فَلَمْ تَذْبَحُوهُ أَنْتُمْ، أَوْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ يَدِينُ لِلَّهِ بِشَرَائِعَ شَرَعَهَا لَهُ فِي كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ وَلَا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا ذَبَحَهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَوْثَانِهِمْ، فَإِنَّ أَكْلَ ذَلِكَ “ فِسْقٌ “، يَعْنِي: مَعْصِيَةُ كُفْرٍ. فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: “ وَإِنَّهُ “، عَنْ “ الْأَكْلِ “، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفِعْلَ، كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 173] يُرَادُ بِهِ، فَزَادَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا، فَكَنَّى عَنْ “ الْقَوْلِ “، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ بِفِعْلٍ. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ شَيَاطِينَ فَارِسَ وَمَنْ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِ (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)، مِنْ مَرَدَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، يُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الْقَوْلِ، بِجِدَالِ نَبِيِّ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقِنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، قَالَ: أَوْحَتْ فَارِسُ إِلَى أَوْلِيَائِهَا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّدًا وَكَانَتْ أَوْلِيَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقُولُوا لَهُ: أَوَ مَا ذَبَحْتَ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِشِمْشَارٍ مِنْ ذَهَبٍ- فَهُوَ حَرَامٌ!! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، قَالَ: الشَّيَاطِينُ: فَارِسُ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ قُرَيْشٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَاتَبُوا فَارِسَ عَلَى الرُّومِ وَكَاتَبَتْهُمْ فَارِسُ، وَكَتَبَتْ فَارِسُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَمَا ذَبَحَ اللَّهُ بِسِكِّينٍ مِنْ ذَهَبٍ فَلَا يَأْكُلُهُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ لِلْمَيْتَةِ وَأَمَّا مَا ذَبَحُوا هُمْ يَأْكُلُونَ “! وَكَتَبَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 112] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنَى بِالشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَغُرُّونَ بَنِي آدَمَ: أَنَّهُمْ أَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ مِمَّا أَوْحَى الشَّيَاطِينُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ: كَيْفَ تَعْبُدُونَ شَيْئًا لَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَ، وَتَأْكُلُونَ أَنْتُمْ مَا قَتَلْتُمْ؟ فَرُوِيَ الْحَدِيثُ حَتَّى بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، قَالَ: إِبْلِيسُ الَّذِي يُوحِي إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَيَاطِينُ الْجِنِّ يُوحُونَ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ: “ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ “ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: مَا الَّذِي يَمُوتُ، وَمَا الَّذِي تَذْبَحُونَ إِلَّا سَوَاءٌ! يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا بِذَلِكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، قَالَ: قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ أَمَّا مَا ذَبَحَ اللَّهُ لِلْمَيْتَةِ، فَلَا تَأْكُلُونَ، وَأَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَحَلَالٌ! حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَا قَتَلَ رَبُّكُمْ فَلَا تَأْكُلُونَ، وَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، أَمَرَ الشَّيْطَانُ أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ لَهُمْ: مَا قَتَلَ اللَّهُ لَكُمْ، خَيْرٌ مِمَّا تَذْبَحُونَ أَنْتُمْ بِسَكَاكِينِكُمْ! فَقَالَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَادَلَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: مَا بَالُ مَا قَتَلَ اللَّهُ لَا تَأْكُلُونَهُ، وَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ! وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، إِلَى آخِرِ الْآيَّةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، يَقُولُونَ: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ فَكُلُوهُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: «أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ، مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ قَتَلَهَا. قَالُوا: فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَلَالٌ، وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} »). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: أَمَّا مَا قَتَلَ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ فَتَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ! حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَمَّا مَا قَتَلْتُمْ وَذَبَحْتُمْ فَتَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ رَبُّكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي أَكْلِ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، إِنَّكُمْ إِذًا لَمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا قَتَلْتُمْ فَتَأْكُلُونَهُ، وَمَا قَتَلَ رَبُّكُمْ لَا تَأْكُلُونَهُ! فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: أَمَّا مَا ذَبَحَ اللَّهُ لِلْمَيْتَةِ فَلَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَهُوَ حَلَالٌ! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}، قَالَ: جَادَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي الذَّبِيحَةِ فَقَالُوا: أَمَّا مَا قَتَلْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَتَأْكُلُونَهُ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ! يَعْنُونَ “ الْمَيْتَةَ “، فَكَانَتْ هَذِهِ مُجَادَلَتَهُمْ إِيَّاهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الْآيَةَ، يَعْنِي عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، أَوْحَى إِلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَقَالَ لَهُمْ: خَاصِمُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَيْتَةِ فَقُولُوا: “ أَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ وَقَتَلْتُمْ فَتَأْكُلُونَ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَ، وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ “! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُهُ كَانَ شِرْكٌ قَطُّ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: أَنْ يَدْعُوَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، أَوْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ يُسَمِّيَ الذَّبَائِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ، وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهُ؟ فَقَالَ اللَّهُ: لَئِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فَأَكَلْتُمُ الْمَيْتَةَ، إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَا ذُكِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا ذَبَحْتُمْ فَكُلُوا! فَنَزَلَتْ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إِلَى قَوْلِهِ: (لِيُجَادِلُوكُمْ)، قَالَ يَقُولُ: يُوحِي الشَّيَاطِينُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ: تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ ! فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلْتُمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الَّذِي مَاتَ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}، هَذَا فِي شَأْنِ الذَّبِيحَةِ. قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ، وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا تَذْبَحُونَ أَنْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذَبَحَ هُوَ لَكُمْ؟ وَكَيْفَ هَذَا وَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَهُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: (لَمُشْرِكُونَ). وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ الَّذِينَ جَادَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: جَاءَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: نَأْكُلُ مَا قَتَلْنَا، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوا الْمُؤْمِنِينَ فِي تَحْرِيمِهِمْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جِدَالِهِمْ إِيَّاهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُوحُونَ كَانُوا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا شَيَاطِينَ الْجِنِّ أَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسَانِ كِلَاهُمَا تَعَاوَنَا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 112]. بَلْ ذَلِكَ الْأَغْلَبُ مِنْ تَأْوِيلِهِ عِنْدِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كَمَا جَعَلَ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ قَبْلِهِ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْمُزَيَّنَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ أَعْلَمُهُ أَنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ لِيُجَادِلُوهُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِهِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ذَبَائِحُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُهَا لِآلِهَتِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَالذَّبْحِ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: فَمَا قَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}؟ قَالَ: يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْأَوْثَانِ، كَانَتْ تَذْبَحُهَا الْعَرَبُ وَقُرَيْشٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْمَيْتَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، قَالَ: الْمَيْتَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ كُلَّ ذَبِيحَةٍ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ جَهِيرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ، سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ لَهُ: أُتِيتُ بِطَيْرِ كَرًى، فَمِنْهُ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا نُسِيَ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَطَ الطَّيْرُ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: كُلْهُ، كُلَّهُ! قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ قَالَ: كُلُوا مِنْذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِوَالْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ أَجْلِسُ إِلَيْهِ فِي حَلْقَةٍ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِيهَا نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هُوَ رَأْسُهُمْ، فَإِذَا جَاءَ سَائِلٌ فَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ وَيَسْكُتُونَ. قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: رَجُلٌ ذَبَحَ فَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَنَى بِذَلِكَ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ، وَمَا مَاتَ أَوْ ذَبَحَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: “ عَنَى بِذَلِكَ: مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ فَنَسِيَ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ “، فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ، لِشُذُوذِهِ وَخُرُوجِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ مِنْ تَحْلِيلِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى فَسَادِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى “ لَطِيفَ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ “، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ “ (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَفِسْقٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى: “ الْفِسْقِ“، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: الْمَعْصِيَةُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا: وَإِنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَإِثْمٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)، قَالَ: “ الْفِسْقُ “، الْمَعْصِيَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْكُفْرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}، فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ}، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ وَأَمَّا إِيحَاؤُهُمْ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، فَهُوَ إِشَارَتُهُمْ إِلَى مَا أَشَارُوا لَهُمْ إِلَيْهِ: إِمَّا بُقُولٍ، وَإِمَّا بِرِسَالَةٍ، وَإِمَّا بِكِتَابٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ الْوَحْيِ “ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، زَعَمَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ! يَعْنِي الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ! فَنَفَرْتُ فَقُلْتُ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ “ صَدَقَ “! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا وَحْيَانِ، وَحْيُ اللَّهِ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ، فَوَحْيُ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَوَحْيُ الشَّيَاطِينِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}. وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ: فَهُمُ النُّصَرَاءُ وَالظُّهَرَاءُ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (لِيُجَادِلُوكُمْ)، لِيُخَاصِمُوكُمْ، بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ; كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)، يَقُولُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي أَكْلِ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)، فَأَكَلْتُمُ الْمَيْتَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، يَعْنِي: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ اسْتِحْلَالًا. فَإِذَا أَنْتُمْ أَكَلْتُمُوهَا كَذَلِكَ، فَقَدْ صِرْتُمْ مِثْلَهُمْ مُشْرِكِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ نُسِخَ مِنْ حُكْمِهَا شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهِيَ مُحْكَمَةٌ فِيمَا عُنِيَتْ بِهِ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ، مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، فَنَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ فِيمَا أُنْزِلَتْ، لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ، وَذَبَائِحَهُمْ ذَكِيَّةٌ. وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَكْلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، بِمَعْزِلٍ. لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمَيْتَةَ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِلطَّوَاغِيتِ، وَذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكِيَّةٌ سَمَّوْا عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُسَمُّوا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَوْحِيدٍ وَأَصْحَابُ كُتُبٍ لِلَّهِ، يَدِينُونَ بِأَحْكَامِهَا، يَذْبَحُونَ الذَّبَائِحَ بِأَدْيَانِهِمْ، كَمَا يَذْبَحُ الْمُسْلِمُ بِدِينِهِ، سَمَّى اللَّهَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ مَنْ ذَكَرَ تَسْمِيَةَ اللَّهِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ عَلَى الدَّيْنُونَةِ بِالتَّعْطِيلِ، أَوْ بِعِبَادَةِ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ، فَيُحَرَّمُ حِينَئِذٍ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ، سَمَّى اللَّهَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُسَمِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى نَهْيِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِهِ يَوْمَئِذٍ عَنْ طَاعَةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَادَلُوهُمْ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُمْ مِنْ جِدَالِهِمْ إِيَّاهُمْ بِهِ، وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِطَاعَةِ مُؤْمِنٍ مِنْهُمْ كَانَ كَافِرًا، فَهَدَاهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِرُشْدِهِ، وَوَفَّقَهُ لِلْإِيمَانِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَطَاعَةُ مَنْ كَانَ مَيْتًا، يَقُولُ: مَنْ كَانَ كَافِرًا؟ فَجَعَلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِانْصِرَافِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَجَهْلِهِ بِتَوْحِيدِهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَتَرْكِهِ الْأَخْذَ بِنَصِيبِهِ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَى نَجَاتِهِ، بِمَنْزِلَةِ “ الْمَيْتِ “ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِنَافِعَةٍ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مِنْ مَكْرُوهِ نَازِلَةٍ (فَأَحْيَيْنَاهُ)، يَقُولُ: فَهَدَيْنَاهُ لِلْإِسْلَامِ، فَأَنْعَشْنَاهُ، فَصَارَ يَعْرِفُ مَضَارَّ نَفْسِهِ وَمَنَافِعَهَا، وَيَعْمَلُ فِي خَلَاصِهَا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فِي مَعَادِهِ. فَجَعَلَ إِبْصَارَهُ الْحَقَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعْدَ عَمَاهُ عَنْهُ، وَمَعْرِفَتِهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ بَعْدَ جَهْلِهِ بِذَلِكَ، حَيَاةً وَضِيَاءً يَسْتَضِيءُ بِهِ فَيَمْشِي عَلَى قَصْدِ السَّبِيلِ، وَمَنْهَجِ الطَّرِيقِ فِي النَّاسِ (كَمَنْ مَثَلَهُ فِي الظُّلُمَاتِ)، لَا يَدْرِي كَيْفَ يَتَوَجَّهُ، وَأَيَّ طَرِيقٍ يَأْخُذُ؛ لِشِدَّةِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَإِضْلَالِهِ الطَّرِيقَ. فَكَذَلِكَ هَذَا الْكَافِرُ الضَّالُّ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، لَا يُبْصِرُ رُشْدًا وَلَا يَعْرِفُ حَقًّا، يَعْنِي فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ. يَقُولُ: أَفَطَاعَةُ هَذَا الَّذِي هَدَيْنَاهُ لِلْحَقِّ وَبَصَّرْنَاهُ الرَّشَادَ، كَطَاعَةِ مَنْ مَثَلُهُ مَثَلُ مَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ مُتَرَدِّدٌ، لَا يَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهَا فِي دُعَاءٍ، هَذَا إِلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَتَحْلِيلِ مَا أَحَلَّ، وَتَحْلِيلِ هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَتَحْرِيمِهِ مَا أَحَلَّ؟ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا مَعْرُوفَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِمَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَّا الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الَّذِي مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، فَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي هَوْذَةَ، عَنْ شُعَيْبٍ السَّرَّاجِ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، قَالَ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَيْتُ الَّذِي أَحْيَاهُ اللَّهُ، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِي مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، فَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ تَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ تَيْمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ {كَمَنْ مَثَلَهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي الْآيَةِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} قَالَ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، قَالَ: هُدًى {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، قَالَ: فِي الضَّلَالَةِ أَبَدًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، هَدَيْنَاهُ {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} فِي الضَّلَالَةِ أَبَدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، قَالَ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، يَعْنِي: مَنْ كَانَ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، يَعْنِي بِالنُّورِ، الْقُرْآنَ، مَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، يَعْنِي: بِالظُّلُمَاتِ، الْكُفْرَ وَالضَّلَالَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، يَقُولُ: الْهُدَى “ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ “، يَقُولُ: فَهُوَ الْكَافِرُ يَهْدِيهِ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ. يَقُولُ: كَانَ مُشْرِكًا فَهَدَيْنَاهُ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، هَذَا الْمُؤْمِنُ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَبَيِّنَةٌ يَعْمَلُ بِهَا وَيَأْخُذُ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي، كِتَابُ اللَّهِ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، وَهَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ فِي الضَّلَالَةِ، مُتَحَيِّرٌ فِيهَا مُتَسَكِّعٌ، لَا يَجِدُ مَخْرَجًا وَلَا مَنْفَذًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {أَوْ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، يَقُولُ: مَنْ كَانَ كَافِرًا فَجَعَلْنَاهُ مُسْلِمًا، وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، يَقُولُ: هَذَا كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ، يَعْنِي الشِّرْكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، قَالَ: الْإِسْلَامُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 257]. قَالَ: وَالنُّورُ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَا فِي بَيْتِهِ وَيُبْصِرُهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ هَذَا النُّورَ، يَسْتَضِيءُ بِهِ فِي دِينِهِ وَيَعْمَلُ بِهِ فِي نُورِهِ، كَمَا يَسْتَضِيءُ صَاحِبُ هَذَا السِّرَاجِ. قَالَ: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}، لَا يَدْرِي مَا يَأْتِي وَلَا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا خَذَلْتُ هَذَا الْكَافِرَ- الَّذِي يُجَادِلُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي أَكْلِ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ- عَنِ الْحَقِّ، فَزَيَّنْتُ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، لِيَسْتَحِقَّ بِهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ، كَذَلِكَ زَيَّنْتُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، لِيَسْتَوْجِبُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، مَا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنَ النَّكَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذَا أَوْضَحُ الْبَيَانِ عَلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ الْأُمُورَ إِلَى خَلْقِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَلَا صُنْعَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَنَّهُ قَدْ سَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَصِلُونَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا، لَكَانَ قَدْ زَيَّنَ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ، نَظِيرَ مَا زَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، وَزَيَّنَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، نَظِيرَ الَّذِي زَيَّنَ مِنْهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَفِي إِخْبَارِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ زَيَّنَ لِكُلِّ عَامِلٍ مِنْهُمْ عَمَلَهُ، مَا يُنْبِئُ عَنْ تَزْيِينِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَخَصَّ أَعْدَاءَهُ وَأَهْلَ الْكُفْرِ، بِتَزْيِينِ الْكُفْرِ لَهُمْ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالطَّاعَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَكَمَا زَيَّنَا لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا بِكُلِّ قَرْيَةٍ عُظَمَاءَهَا مُجْرِمِيهَا يَعْنِي أَهْلَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْمَعْصِيَةِ لَهُ (لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، بِغُرُورٍ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ بِبَاطِلٍ مِنَ الْفِعْلِ، بِدِينِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ (وَمَا يَمْكُرُونَ): أَيْ مَا يَحِيقُ مَكْرُهُمْ ذَلِكَ، إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ وَرَاءِ عُقُوبَتِهِمْ عَلَى صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ “ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ “، يَقُولُ: لَا يَدْرُونَ مَا قَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ عَذَابِهِ، فَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَعُتُوِّهِمْ عَلَى اللَّهِ يَتَمَادَوْنَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، قَالَ: عُظَمَاءَهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، قَالَ: عُظَمَاءَهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، إِلَى قَوْلِهِ: (بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ)، بِدِينِ اللَّهِ، وَبِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْأَكَابِرُ: جَمْعُ “ أَكْبَرَ “، كَمَا “ الْأَفَاضِلُ “ جَمْعُ “ أَفْضَلَ “. وَلَوْ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ “ كَبِيرٍ “، فَجُمِعَ “ أَكَابِرَ “؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: “ أَكْبَرُ “، كَمَا قِيلَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}، [سُورَةُ الْكَهْفِ: 103]، وَاحِدُهُمْ “ الْخَاسِرُ “، لَكَانَ صَوَابًا. وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا “ الْأَكَابِرَةُ “ وَ“ الْأَصَاغِرَةُ “، وَ“ الْأَكَابِرُ “، وَ“ الْأَصَاغِرُ “، بِغَيْرِ الْهَاءِ، عَلَى نِيَّةِ النَّعْتِ، كَمَا يُقَالُ: “ هُوَ أَفْضَلُ مِنْكَ “. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِمَا جَاءَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى “ أَفْعَلَ “، إِذَا أَخْرَجُوهَا إِلَى الْأَسْمَاءِ، مِثْلَ جَمْعِهِمُ “ الْأَحْمَرَ “ وَ“ الْأَسْوَدَ “، “ الْأَحَامِرَ “ وَ“ الْأَحَامِرَةَ “، وَ“ الْأَسَاوِدَ “ وَ“ الْأَسَاوِدَةَ “، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إِنَّ الْأَحَامِرَةَ الثَّلَاثَةَ أَهْلَكَتْ *** مَالِي، وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْمًا مُولَعًا الْخَمْرُ وَاللَّحْمُ السِّمِينُ إِدَامُهُ *** وَالزَّعْفَرَانُ، فَلَنْ أَرُوحَ مُبَقَّعَا وَأَمَّا “ الْمَكْرُ “، فَإِنَّهُ الْخَدِيعَةُ وَالِاحْتِيَالُ لِلْمَمْكُورِ بِهِ بِالْغَدْرِ، لِيُوَرِّطَهُ الْمَاكِرُ بِهِ مَكْرُوهًا مِنَ الْأَمْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (آيَةٌ)، يَعْنِي: حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَحَقِيقَتِهِ قَالُوا لِنَبِيِّ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ: (لَنْ نُؤْمِنَ)، يَقُولُ: يَقُولُونَ: لَنْ نُصَدِّقَ بِمَا دَعَانَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ عَلَيْنَا (حَتَّى نُؤَتَّى)، يَعْنُونَ: حَتَّى يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مِثْلَ الَّذِي أَعْطَى مُوسَى مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ، وَعِيسَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَنْ يُعْطَاهَا مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مِنْهُمْ فَيُعْطَوْهَا. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَنَا أَعْلَمُ بِمَوَاضِعَ رِسَالَاتِي، وَمَنْ هُوَ لَهَا أَهْلٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ أَنْ تَتَخَيَّرُوا ذَلِكَ عَلَيَّ أَنْتُمْ؛ لِأَنَّ تَخَيُّرَ الرَّسُولِ إِلَى الْمُرْسِلِ دُونَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا أَرْسَلَ رِسَالَةً بِمَوْضِعِ رِسَالَاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعْلِمَهُ مَا هُوَ صَانِعٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَيْهِ: “ سَيُصِيبُ “، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ اكْتَسَبُوا الْإِثْمَ بِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ (صَغَارٌ)، يَعْنِي: ذِلَّةٌ وَهَوَانٌ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ}، قَالَ: “الصَّغَارُمَعْنَاهُ “، الذِّلَّةُ. وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَارًا وَصَغَرًا “، وَهُوَ أَشَدُّ الذُّلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: “ سَيَأْتِينِي رِزْقِي عِنْدَ اللَّهِ “، بِمَعْنَى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُرَادُ بِذَلِكَ: سَيَأْتِينِي الَّذِي لِي عِنْدَ اللَّهِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَنْ قَالَ: “ سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ “، أَنْ يَقُولَ: “ جِئْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ “، بِمَعْنَى: جِئْتُ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى “ سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ “، سَيُصِيبُهُمُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الذُّلِّ، بِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَظِيرِ: “ جِئْتُ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ “.. وَقَوْلُهُ: {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}، يَقُولُ: يُصِيبُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُسْتَحِلِّينَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَيْتَةِ، مَعَ الصَّغَارِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، بِمَا كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالزُّخْرُفِ مِنَ الْقَوْلِ، غُرُورًا لِأَهْلِ دِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، فَيُوَفِّقَهُ لَهُ (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)، يَقُولُ: فَسَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ وَهَوَّنَهُ عَلَيْهِ، وَسَهَّلَهُ لَهُ، بِلُطْفِهِ وَمَعُونَتِهِ، حَتَّى يَسْتَنِيرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، فَيُضِيءَ لَهُ، وَيَتَّسِعَ لَهُ صَدْرُهُ بِالْقَبُولِ، كَالَّذِي جَاءَ الْأَثَرُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي:- حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «لِمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، قَالُوا: كَيْفَ يَشْرَحُ الصَّدْرَ؟ قَالَ: إِذَا نَزَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ وَانْفَسَحَ. قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ آيَةٌ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْفَوْتِ.» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا. قَالَ: وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، قَالُوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ، فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ. قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: “ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْت». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ رَجُلٍ يُكْنَى “ أَبَا جَعْفَرٍ “، كَانَ يَسْكُنُ الْمَدَائِنَ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، قَالَ: نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ فَيَنْشَرِحُ وَيَنْفَسِخُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَهُ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ مِثْلَه». حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، قَالَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ. قَالُوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّنَحِّي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ.» حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ تُعْرَفُ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ.» حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ؟ قَالَ: يُدْخِلُ فِيهِ النُّورَ فَيَنْفَسِحُ. قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْمَوْتُ.» وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، أَمَّا “ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ “، فَيُوَسِّعْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، بِ “ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، بِ “ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “ يَجْعَلْ لَهَا فِي صَدْرِهِ مُتَّسَعًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِضْلَالَهُ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى، يَشْغَلْهُ بِكُفْرِهِ وَصَدِّهِ عَنْ سَبِيلِهِ، وَيَجْعَلْ صَدْرَهُ بِخِذْلَانِهِ وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ، حَرَجًا. وَ“ الْحَرَجُتَعْرِيفُهُ “ أَشَدُّ الضِّيقِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُنْفِذُهُ، مِنْ شِدَّةِ ضِيقِهِ، وَهُوَ هَهُنَا الصَّدْرُ الَّذِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ، وَلَا يَدْخُلُهُ نُورُ الْإِيمَانِ، لِرَيْنِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ “ الْحَرَجِ “، وَ“ الْحَرَجُ “ جَمْعُ “ حَرَجَةٍ “، وَهِيَ الشَّجَرَةُ الْمُلْتَفُّ بِهَا الْأَشْجَارُ، لَا يَدْخُلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا شَيْءٌ لِشِدَّةِ الْتِفَافِهَا بِهَا، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمَّارٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) بِنَصْبِ الرَّاءِ. قَالَ: وَقَرَأَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ ضَيِّقًا حَرِجًا “. قَالَ صَفْوَانُ: فَقَالَ عُمَرُ: ابْغُونِي رَجُلًا مِنْ كِنَانَةَ وَاجْعَلُوهُ رَاعِيًا، وَلْيَكُنْ مُدْلِجِيًّا. قَالَ: فَأَتَوْهُ بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا فَتَى، مَا الْحَرَجَةُ؟ قَالَ: “ الْحَرَجَةُ “ فِينَا، الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ صَدْرَهُ حَتَّى يَجْعَلَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ ضَيِّقًا، وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ. وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، [سُورَةُ الْحَجِّ: 78]، يَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ: بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: شَاكًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (ضَيِّقًا حَرَجًا) قَالَ: شَاكًّا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (ضَيِّقًا حَرَجًا) أَمَّا “ حَرَجًا “، فَشَاكًّا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: مُلْتَبِسًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، قَالَ: ضَيِّقًا مُلْتَبِسًا. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (ضَيِّقًا حَرَجًا)، يَقُولُ: مُلْتَبِسًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الضِّيقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، قَالَ: لَا يَجِدُ مَسْلَكًا إِلَّا صُعُدًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: (ضَيِّقًا حَرَجًا)، قَالَ: لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَجِدُ لَهَا فِي صَدْرِهِ مَسَاغًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا}، بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَدْخُلَهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (ضَيِّقًا حَرَجًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ مِنْ (حَرَجًا)، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْمَكِّيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ، بِمَعْنَى جَمْعِ “ حَرَجَةٍ “، عَلَى مَا وَصَفْتُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ: “ ضَيِّقًا حَرِجًا “، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِمَعْنَى: “ الْحَرَجِ “. وَقَالُوا: “ الْحَرَجُ “ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ، وَ“ الْحَرِجُ “ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، مِثْلُ: “ الدَّنَفِ “ وَ“ الدَّنِفِ “، وَ“ الْوَحَدِ “ وَ“ الْوَحِدِ “، وَ“ الْفَرَدِ “ وَ“ الْفَرِدِ “. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: “ فُلَانٌ آثِمٌ حَرِجٌ “، وَذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا مِنْهَا: “ حَرِجٌ عَلَيْكَ ظُلْمِي “، بِمَعْنَى: ضِيقٌ وَإِثْمٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَلُغَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، لِاتِّفَاقِ مَعْنَيْهِمَا. وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْعَرَبِ فِي “ الْوَحَدِ “ وَ“ الْفَرَدِ “ بِفَتْحِ الْحَاءِ مِنَ “ الْوَحَدِ “ وَالرَّاءِ مِنَ “ الْفَرَدِ “، وَكَسْرِهِمَا، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَمَّا “ الضَّيِّقُ “، فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَرَأَةِ عَلَى فَتْحِ ضَادِّهِ وَتَشْدِيدِ يَائِهِ، خَلَا بَعْضَ الْمَكِّيِّينَ فَإِنَّهُ قَرَأَهُ: “ ضَيْقًا “، بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ، وَتَخْفِيفِهِ. وَقَدْ يَتَّجِهُ لِتَسْكِينِهِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ سَكَّنَهُ وَهُوَ يَنْوِي مَعْنَى التَّحْرِيكِ وَالتَّشْدِيدِ، كَمَا قِيلَ: “ هَيِّنٌ لَيِّنٌ “، بِمَعْنَى: هَيِّنٌ لَيِّنٌ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ سَكَّنَهُ بِنِيَّةِ الْمَصْدَرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: “ ضَاقَ هَذَا الْأَمْرُ يَضِيقُ ضَيْقًا “، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ كُلِّ مَأْزِقِ *** ضَيْقٍ بِوَجْهِ الْأَمْرِ أَوْ مُضَيَّقِ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، [سُورَةُ النَّحْلِ: 127]. وَقَالَ رُؤْبَةُ أَيْضًا: وَشَفَّهَا اللَّوْحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ *** بِمَعْنَى: ضَيِّقٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “ الضِّيقُ “، بِالْكَسْرِ: فِي الْمَعَاشِ وَالْمَوْضِعِ، وَفِي الْأَمْرِ “ الضَّيْقُ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْيَنُ الْبَيَانِ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِمَا، عَنْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يُوصَلُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، غَيْرُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يُوصَلُ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّ كِلَا السَّبَبَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَشْرَحُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ هِدَايَتَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ ضَيِّقًا عَنِ الْإِسْلَامِ حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنْ شَرْحَ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ خِلَافُ تَضْيِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُوصَلُ بِتَضْيِيقِ الصَّدْرِ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ تَضْيِيقِهِ عَنْهُ وَبَيْنَ شَرْحِهِ لَهُ فَرْقٌ، وَلَكَانَ مَنْ ضُيِّقَ صَدْرُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، قَدْ شُرِحَ صَدْرُهُ لَهُ، وَمَنْ شُرِحَ صَدْرُهُ لَهُ، فَقَدْ ضُيِّقَ عَنْهُ، إِذْ كَانَ مَوْصُولًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي مِنَ التَّضْيِيقِ وَالشَّرْحِ إِلَى مَا يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ كَانَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي جَهْلٍ لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَضَيَّقَ صَدْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَفِي فَسَادِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ آمَنَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَطَاعَهُ الْمُطِيعُونَ، غَيْرُ السَّبَبِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَعَصَاهُ الْعَاصُونَ، وَأَنَّ كِلَا السَّبَبَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَشْرَحُ صَدْرَ هَذَا الْمُؤْمِنِ بِهِ لِلْإِيمَانِ إِذَا أَرَادَ هِدَايَتَهُ، وَيُضَيِّقُ صَدْرَ هَذَا الْكَافِرِ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ إِضْلَالَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مَثَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ضَرَبَهُ لِقَلْبِ هَذَا الْكَافِرِ فِي شِدَّةِ تَضْيِيقِهِ إِيَّاهُ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، مِثْلَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، يَقُولُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصَّعَدَ فِي السَّمَاءِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، مِثْلَهُ. وَبِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً: “ {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} “، بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَدْخُلَهُ، “ {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} “، مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ)، بِمَعْنَى: “ يَتَصَعَّدُ “، فَأَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الصَّادِ، فَلِذَلِكَ شَدَّدُوا الصَّادَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: “ يَصَّاعَدُ “، بِمَعْنَى: “ يَتَصَاعَدُ “، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ، وَجَعَلَهَا صَادًا مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْمَكِّيِّينَ: “ كَأَنَّمَا يَصْعَدُ “، مِنْ “ صَعِدَ يَصْعَدُ “. وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَقَارِبَاتُ الْمُعَانِي، وَبِأَيِّهَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، غَيْرَ أَنِّي أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ)، بِتَشْدِيدِ الصَّادِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، بِمَعْنَى: “ يَتَصَعَّدُ “، لِكَثْرَةِ الْقَرَأَةِ بِهَا، وَلِقِيلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “ مَا تَصَعَّدَنِي شَيْءٌ مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النِّكَاحِ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا يَجْعَلُ اللَّهُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمَاءِ مِنْ ضِيقِهِ عَنِ الْإِيمَانِ فَيَجْزِيهِ بِذَلِكَ، كَذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَبَى الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيُغْوِيهِ وَيَصُدُّهُ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى “ الرِّجْسِ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: “ الرِّجْسُ “، مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، قَالَ: مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الرِّجْسُ “، الْعَذَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، قَالَ: الرِّجْسُ عَذَابُ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: “ الرِّجْسُ “ الشَّيْطَانُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (الرِّجْسُ)، قَالَ: الشَّيْطَانُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: “ الرِّجْسُ “، “ وَالنِّجْسُ “ لُغَتَانِ. وَيُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ: “ مَا كَانَ رِجْسًا، وَلَقَدْ رَجُسَ رَجَاسَةً “ وَ“ نَجُسَ نَجَاسَةً “. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: “ الرِّجْسُ “ وَ“ الرِّجْزُ “، سَوَاءٌ، وَهُمَا الْعَذَابُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ “ الرِّجْسَ “ وَ“ النِّجْسَ “ وَاحِدٌ، لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ: “ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النِّجْسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ “». حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّ “ الرِّجْسَ “ هُوَ “ النِّجْسُ “، الْقَذِرُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الشَّيْطَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ هُوَ صِرَاطُ رَبِّكَ، يَقُولُ: طَرِيقُ رَبِّكَ، وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ دِينًا، وَجَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. فَاثْبُتْ عَلَيْهِ، وَحَرِّمْ مَا حَرَّمْتُهُ عَلَيْكَ، وَأَحْلِلْ مَا أَحْلَلْتُهُ لَكَ، فَقَدْ بَيَّنَا الْآيَاتِ وَالْحُجَجَ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ وَصِحَّتِهِ “ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ “، يَقُولُ: لِمَنْ يَتَذَكَّرُ مَا احْتَجَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَعْتَبِرُ بِهَا. وَخَصَّ بِهَا “ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ “؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ التَّمْيِيزِ وَالْفَهْمِ، وَأُولُو الْحِجَى وَالْفَضْلِ وَقِيلَ: “ يَذَّكَرُونَ “...................... وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}، يَعْنِي بِهِ الْإِسْلَامَ.
|